الضروبات

السبت، 10 مايو 2014


( الضروريات )

قد علمتَ أن الدليل له صورة ومادة، وأن مادة الدليل قد تكون يقينية وقد تكون غير يقينية، وأن المادة اليقينية قد تكون أولية يحكم بها العقل بمجرد تصور أطراف القضية، وقد تكون حسية يحكم بها العقل بواسطة حس ظاهر أو باطن، وقد تكون متواترة يحكم بها العقل بواسطة السماع من كثرة يستحيل معها الاتفاق على الكذب، وقد تكون تجريبية يحكم بها العقل بواسطة مشاهدة متكررة لنفس النتيجة.
وقد بقي قسمان من أقسام الضروريات وهما:
أولا: الحَدْسِيَّات.
ثانيا: الفِطْرِيَّات.

فالحَدْسِيَّات هي: التي يحكم فيها العقل بمعونة التكرار لشيء يحصل من غير فعل من الإنسان.
فهي كالمجربات تحتاج لمشاهدات متكررة لتدل على أن هذا الشيء متسبب من شيء آخر إلا أنها خارجة عن فعل الإنسان ومقدوره.

مثال: زيد له بستان مطل على نهر وله فيه بئر، وصار يشاهد أنه كلما نزل مستوى الماء في النهر في وقت ما كلما ارتفع مستوى الماء في البئر، فانتقل ذهنه مباشرة إلى أن ( ارتفاع ماء البئر سببه انخفاض ماء النهر ).
فهنا حكم العقل بمعونة التكرار لظاهرة ارتفاع ماء البئر عند انخفاض ماء النهر أن ذلك الارتفاع حصل بسبب الانخفاض، وارتفاع وانخفاض الماء ليسا من فعل الإنسان ولا يحتاج ليتدخل ويجرب ماذا سيحصل كما في المجربات.
فالحدسيات هي عبارة عن مشاهدات لظاهرة وقعت فيربط الذهن بينها وبين أمر آخر.
مثال: أن يرى الناظر القمر والشمس ويرى أنه تارة يصير هلالا وتارة يصير قرصا كاملا فتارة يصغر وتارة يكبر من بداية الشهر إلى نهايته، ويلاحظ أن ذلك يحصل بسبب قرب القمر من الشمس فكلما اقترب منها توسع وكبر القمر وكلما ابتعد عنها كلما صغر حتى يصير كالخيط فينتقل ذهنه بسبب هذه المشاهدات إلى أن نور القمر مستفاد من الشمس وليس من ذاته.
فهنا تكررت المشاهدات لظاهرة خارجة عن فعل الإنسان وهي اختلاف ضوء القمر عند قربه وبعده من الشمس فانتقل ذهن زيد بلا حاجة إلى وقت يفكر فيه إلى أن نور القمر سببه هو الشمس.

مثال: أن يرى الناظر الأشياء العالية كالسفن يرى من بعيد أعاليها فقط وكلما اقتربت أخذت تظهر أكثر وتكررت هذه المشاهد عنده فانقدح في نفسه مباشرة أن الأرض كروية الشكل وصار هذا الشعور يقيني تسكن معه النفس وتطمئن به. 

مثال: أن يرى الناظر أن ثمار الأشجار وغيرها تهبط دائما وترجع إلى الأرض مما يدل على وجود الجاذبية وأنها هي سبب السقوط إلى الأسفل. 

مثال: أن يرى الناظر في صباح بعض أيام الشتاء أن زجاج النوافذ قد صار مبتلا بلا مطر يسقط وتكررت هذه المشاهد عنده فجزم بأن سببها هي الرياح الباردة الرطبة.
وعليه فقس.

وهكذا نجد أن الحدسيات هي تفسير لبعض الظواهر وأنه قد استخدم العلماء الحدس لتفسير بعض الأمور الكونية كالأمور الفلكية والحوادث الطبيعية كالزلازل.
فالحدسيات هي ربط بين ظاهرة وشيء آخر على أن تكون تلك الظاهرة قد نتجت من ذلك الشيء الآخر لوجود علامة مشعرة بذلك الربط، وتحصل الحدسيات من غير تفكير واستدلال وإلا لكانت نظرية وإنما هو أمر يهجم على النفس بسبب تلك المشاهدات المتكررة.

سادسا: الفِطْرِيَّات وهي: التي يحكم فيها العقل بمعونة دليل حاضر في الذهن.
بمعنى أنه بعد تصور طرفي القضية والنسبة سيجزم الذهن ويوقن بالقضية لوجود دليل حاضر لا يحتاج الإنسان كي يستحضره ويفكر فيه بل هو موجود دائما ولهذا لم تعد هذه من النظريات لأن الدليل لا يطلب ويبحث عنه بالفكر والتأمل بل هو دائم الحضور فمتى تصور معنى الجملة جزم بها. 

مثال: الأربعة زوج، فإن من تصور الأربعة وتصور الزوجية جزم بأنها زوج ولكن لوجود دليل مقارن لهذه القضية وهو: الأربعة تنقسم إلى متساويين وكل ما ينقسم إلى متساويين فهو زوج فالأربعة زوج.
فهذا قياس من الشكل الأول، ولكن الإنسان حينما تمر عليه قضية الأربعة زوج لا يأخذ وقتا ليفكر ويستحضر ذلك القياس ليجزم حينئذ أن الأربعة زوج بل هذا الدليل حاضر في نفسه لا يحتاج ليطلبه ولرسوخه في ذهنه يجزم بالقضية من غير أن يشعر به.

مثال: الاثنان نصف الأربعة، فهذه قضية بديهية واضحة من تصورها جزم بها مباشرة.
ولكن عند التأمل يظهر أنها من الفطريات أي جزم العقل بها لا لذات القضية ولكن لدليل حاضرا دائما.
وهذا الدليل هنا هو: الاثنان عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى قسم آخر يساويه- وكل ما ينقسم عدد إليه وإلى قسم آخر يساويه فهو نصف ذلك العدد- فالاثنان نصف ذلك العدد وهو الأربعة.
بمعنى لأن الاثنين هي أحد قسمي الأربعة المتساويين فهي نصف الأربعة.
فقولنا لأن الاثنين كذا هذا وسط ودليل ولكنه حاضر دائما ولا يطلبه الإنسان بالتفكير والتأمل لكي يجزم بأن الاثنين نصف الأربعة.
وكذلك لو قلنا الأربعة نصف الثمانية فلأن الأربعة هي أحد قسمي الثمانية المتساويين فهي نصف الثمانية.

مثال: الثلاثة فرد، فهذه القضية فطرية يجزم بها العقل مباشرة بعد تصورها ولكن عند التأمل يتضح أنه جزم بها بسبب وسط حاضر في الذهن وهو أن الثلاثة لا تنقسم إلى متساويين وكل ما لا ينقسم إلى متساويين فهو فرد، فالثلاثة فرد.

مثال: الثلاثة ثلث التسعة فلأن الثلاثة هي أحد 3 أقسام متساوية للتسعة كانت الثلاثة ثلث التسعة.
وهكذا في كل نسب الأعداد التي تكون قريبة إلى الذهن فإن احتاجت إلى فكر وتأمل فستكون نظرية وإن كانت يقينية أيضا كالسبعة عشر ربع الثمانية وستين فهذه نظرية.

مثال: انتفاء الملزوم لا يلزم منه انتفاء اللازم، فهذه القضية من الفطريات فإن من تصور ما هو المقصود بمصطلح الملزوم واللازم جزم بهذا الحكم لأن الملزوم قد يكون أخص من اللازم ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم.
وعليه فقس. 

( ضابط الضروريات الست )

ولو أردنا أن نذكر ضابطا يجمع الضروريات الست نقول:
إما أن يصدق العقل بالقضية بلا معونة الحس أو مع معونة الحس.
والتي يصدق العقل بها بلا معونة الحس إما أن لا يتوقف ذلك التصديق على دليل حاضر في النفس أو يتوقف على دليل حاضر.
فالتي لا يتوقف التصديق بها على دليل حاضر في النفس هي الأوليات، والتي يتوقف عليه هي الفطريات.
والتي يصدق العقل بها بمعونة الحس إما أن لا يتوقف التصديق بها على شيء آخر غير الحس، أو يتوقف على شيء آخر غير الحس.
فالتي لا يتوقف التصديق بها على شيء آخر غير الحس هي المحسوسات.
والتي يتوقف التصديق بها على شيء آخر إما أن يكون ذلك الشيء هو السماع من كثرة أو تكرار المشاهدة.
فالتي يتوقف التصديق بها على السماع من كثرة هي المتواترات.
والتي يتوقف التصديق بها على تكرار المشاهدة إما أن تحصل بفعل من الإنسان أو تحصل بغير فعل منه. 
فالتي تحصل بفعل من الإنسان هي المجربات، والتي تحصل بغير فعل منه هي الحدسيات.

( الفرق بين الضروريات الست )

ولكي تضبط تلك الضروريات نسلط الضوء أكثر على الفروق التي بينها وهي:
أولا: أن الأوليات هي البديهيات الوحيدة التي لا تحتاج لشيء خارج عن تصور أطراف القضية.
فبمجرد أن تتصور الموضوع والمحمول والنسبة تجزم بالنسبة وتصدق بالقضية بشكل يقيني جازم، ولا تحتاج إلى واسطة من دليل حاضر أو حس أو سماع أو تكرار. 

ثانيا: الفرق بين المحسوسات والمجربات مع أن كلا منهما يحتاج للحس هو أن الحس يفيد اليقين بقضية شخصية، بينما التجربة تعطي المدلول الكلي أي تجعل القضية كلية. 
مثال: إذا قرّبت يدك من النار فستشعر وتحس أنها حارة بحاسة اللمس ، فتقول هذه النار حارة فهذه من المحسوسات، وإذا جربت ومددت يدك مع هذه النار وتلك وتكرر الأمر معك فحينئذ تقول كل نار حارة.
مثال: إذا شربتَ ماء من إناء فأحسست بالري فستقول هذا الماء يروي، فهذه قضية شخصية من المحسوسات وأنت تحس بها بوجدانك أي بحسك الباطن، وإذا تكرر معك الأمر وكلما عطشت شربت ماء فارتويت فستقول كل ماء يروي فهذه قضية كلية من المجربات.
فالحس لوحده= المحسوسات، والحس+ التكرار= المجربات.

ثالثا: الفرق بين المحسوسات والمتواترات مع أن كلا منهما يستند إلى حس، هو أن المتواترات تستند إلى سماع خاص من كثرة يحال معها الكذب، بينما هذه الصفة لا تتوفر في المسموعات العامة.
مثال: إذا سمعت صوت انفجار مدوي فستقول: هذا الصوت قوي فهذه محسوسات، وإذا سمعت صاحبك يتحدث إليك فستقول أنا أسمع صوتك فهذه محسوسات.
مثال: إذا أخبرك أشخاص كثر بالحرب العرقية الإيرانية بعد مرور أكثر من عشرين سنة عليها فستصدق وتجزم بها فهي من المتواترات.
ثم هنالك فرق بين سماع الكلام، والجزم بمضمون الكلام.
مثال: إذا حدثك شخص ثقة بأمر ولم يحدثك غيره به، فسماعك لكلامه من المحسوسات، والتصديق بمضمون الخبر الذي أخبرك به من النظريات لأنه خبر واحد.
مثال: إذا أخبرك أشخاص كثر بخبر، فسماعك لأصواتهم من المحسوسات، والتصديق بمضمون الخبر الذي أخبروك به من الضروريات لأنك تجد نفسك مضطرة لأن تصدق بشكل تام بما قالوا.
فالسماع+ الكثرة= التواتر.

رابعا: الفرق بين البديهيات والفطريات مع أن كلا منهما يصدق العقل بهما عند تصورهما هو أن نفس التصور كاف للجزم في الأوليات بلا حاجة للدليل، بينما في الفطريات هناك دليل خفي مع القضية.
ولهذا تسمى الفطريات بقضايا قياساتها معها فلا تطلب ولا يبحث عنها بالفكر بل الدليل ملازم لتلك القضايا يحصل في النفس بلا شعور.

خامسا: الفرق بين المجربات والحدسيات مع أن كلا منهما يحتاج للنظر هو أن المجربات تحصل بفعل الإنسان أي بتجاربه المتكررة بينما في الحدسيات هي أمور خارجة عن فعل الإنسان لا يحتاج أكثر من مشاهدتها دون تدخل منه في حصولها.
مثال: إعطاء الطبي الدواء الواحد لأكثر من مريض ليختبر النتيجة أو يكرر الكيميائي في معمله الأفعال على عينات مختلفة أو في ظروف مختلفة ليتحقق من النتيجة هذا من المجربات.
مثال:الظواهر الكونية والأمور الطبيعية التي تحصل ويشاهدها الإنسان هذه من الحدسيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

قائمة المدونات الإلكترونية

About Me